لو كشف لك من علم الغيب عن خفي أجلك، فأخبرت أن ما تدركه من رمضان هذه السنة هو آخر رمضان لك في الحياة..
ثم أنت لا تدري أتتمه أم تنقطع بالموت دونه، لو قيل لك ذلك.. كم سيكون الخير فيك؟!
وكم ستجهد في استغلال أيامه ولياليه، وتحقيق الإخلاص والصدق فيه؟!
وكم هي أعمال البر التي سنقوم بها؟!
إن الشعور بالوداع وتضايق الفرص يبعث في النفس من الاهتمام والجد والتوجه شيئًا لا يبعثه التسويف وطول الأمل.. جاء رجل إلى رسول الله فقال: يا رسول الله، علمني وأوجز.
فقال: "إذا قمت في صلاتك، فصلِّ صلاة مودع"[1].
تصور أنك تصلي صلاة تنتظر بعدها الموت، كم ستخشع فيها ويحضر قلبك؟! وكم ستتمها وتحقق الإخلاص فيها؟!
لماذا لا نستحضر روح الوداع في عباداتنا كلها؟! ونستشعر أننا نصوم رمضان هذه السنة صوم مودع! وننظر إلى إقبالة رمضان هذه السنة على أنها إقبالة ملوِّح بالوداع..
كم كنت تعرف ممن صام في سلف *** من بين أهل وجيران وإخـوان
أفناهم الموت واستبقاك بعدهــم *** حيًّا فما أقرب القاصي من الداني
ومعجب بثياب العيـد يقطــعها *** فأصبحت في غدٍ أثواب أكفان
فكم من مستقبل يومًا لا يكمله! ومؤملاً لغدٍ لا يدركه! وقد روي في الحديث "افعلوا الخير دهركم وتعرضوا لنفحات رحمة الله؛ فإن لله نفحات من رحمته، يصيب بها من يشاء من عباده"[2].
فتعال معي -أيها الحبيب- نستحضر أحاسيس الوداع، ولوعة الفراق، علَّنا نودع بها دعة أتلفت أيامنا، وكسلاً أذهب أعوامنا، وأماني أضاعت إيماننا..
تعال معي نخصُّ هذا الشهر الكريم بمزيد عناية وكأنا نصومه صوم مودع، دعنا نخرجه من إلف العادة المستحكمة، إلى روح العبادة المشرقة.. والله يتولانا وإياك بعونه ورعايته.
نصوم رمضان في كل عام وهمُّ أكثرنا أن يبرئ الذمة ويؤدي الفريضة.. فليكن همنا هذا العام تحقيق معنى الصيام (إيمانًا واحتسابًا)؛ ليغفر لنا ما تقدم من ذنوبنا.. وكم هي كثيرة!
نحرص كل عام على ختم القرآن في شهر القرآن مرات عديدة.. فلتكن إحدى ختمات هذا العام ختمة تدبر وتأمل بنية إقامة حدوده قبل سرد حروفه.
نتنقل للقيام بين المساجد كل عام طلبًا لصوت الأجمل، والوقت الأخصر.. فليكن سعينا هذا العام في طلب الصلاة الأكمل.
نخص رمضان بمزيد من التوسعة على النفس والأهل من أطايب الدنيا، فليتسع ذلك للتوسعة عليهم بأغذية الأرواح والأنفس، من خلال جلسات الإيمان التي تشرق بها أركان البيت.
إذا أدخلنا السرور على أسرنا بهذا وذاك فلنوسع الدائرة هذا العام فندخل السرور على أسرٍ أخرى.. أسرتها الحاجة، وكبلتها الأعباء.
نتصدق كل عام بقصد مساعدة المحتاجين، لنجعل قصدنا هذا العام بهذه المساعدة مساعدة أنفسنا بتخليصها من نار الخطيئة بصدقة تطفئ غضب الرب.
نحرص على العمرة في رمضان لفضلها.. فلنجعلها هذا العام لعمرنا كله نغسل بها ما مضى من ذنوب.. نطوف بها في أفياء الرحمة، إذ قد يكون آخر العهد بالبيت الطواف.
نحرص على اكتساب العمل النافع في رمضان، فليكن هذا النفع متعديًا للغير بكتاب يُهدى، أو نصيحةٍ تُسدى أو إصلاحٍ بين الناس.
لنفسك من دعائك النصيب الأوفى، فلنتخلَّ عن هذا (البخل) في شهر الكرم، فملايين المسلمين في حاجة إلى نصيب من دعائك الذي تؤمِّن عليه الملائكة وتقول: (ولك بمثل)، فيبقى نصيبك محفوظًا.
الجود محمود في رمضان وأنت من أهله، فليمتد جودك إلى الإحسان لمن أساء عليك، ووصل من قطعك (وما زاد الله عبدًا بعفو إلا عزًّا).
لنكف عن الاعتكاف إلى الناس، ولنكتف بالعكوف مع النفس لمحاسبتها، فربما يفجأنا الموت فنحاسب داخل القبر قبل أن نتمكن من محاسبة أنفسنا ونحن أحياء {أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ يَا حَسْرَتَا عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ} [الزمر: 56].
نحب التعبد بتفطير الصائمين، فلنجرد هذه العبادة من حب المحمدة أو دفع المذمة، فذلك رياء لا يثيب صاحبه بل يصيب مقاتله.
تفطير الصائمين من جوعة البطن مستحب مندوب، ولكن إشباع جياع القلوب فرض مطلوب، فليكن لنا جهد في هذا مع جهدنا في ذلك، فكم من ظامئ للموعظة يحتاج السقيا! وكم من غارق في الشهوات يحتاج طوق النجاة!
تصفُّ قدميك مع مصلين لا تعرفهم.. فهلا تعرفت على ما يوحِّد قلبك معهم، ويضم صفك إليهم، فإن تسوية الصفوف خلف الإمام ما جُعلت إلا لتوحيد القلوب مع الإيمان!!
لنا ولك أعداء، فانتصر عليهم بالدعاء إن كانوا كافرين، وانتصف منهم بالدعاء إن كانوا مسلمين، فكم من دعاء حوّل العداء إلى ولاء! والله يتولى الصالحين.
في رمضان، يذكرك الضعفاء أنفسهم على نواصي الطرقات وعند أبواب المساجد، فلا تنس المستضعفين الذي استغنوا عن السؤال، أو قطع طريقهم إليك رتل الدبابات وأزيز الطائرات، أو أعياهم الجوع في المجاهل والأحراش الموحشة.
يتوارد على سمعك في كل عام ما يعرفك بقدر رمضان، فاجعل هم هذا العام أن تتعامل مع رمضان بمقدار قدره.
قدر رمضان يتضاعف ليلة القدر، فهل قدَّرت في نفسك أنها ربما فاتتك في أعوام خالية؟! فاغتنمها اليوم فقد لا تأتي بها ليالٍ تالية.
إذا ودعت رمضان أو ودعك.. فاستحفظه ربك، واستودعه عملك.. فإن لم تجد ما تودعه فذاك لخيبة نفسك، وذهاب عمرك، والمحروم من حُرِم.
هذه خطرات على أبواب هذا الموسم العظيم، فهلا عقدنا العزم على أن يكون الشهر لنا {مُغْتَسَلٌ بَارِدٌ وَشَرَابٌ} [ص: 42].
نغسل فيه أدران الذنوب فنتوب، ونشرب من مواعظه ما تحيا به القلوب، فليكن بداية جديدة لنا، ومحطة للعودة الصادقة إلى ربنا، فها قد اقتربت أيام رمضان وهبت رياحه فاغتنمها.
فيا غيوب الغفلة عن القلوب تقشعي، ويا همم المسلمين أسرعي، فطوبى لمن أجاب فأصاب، وويل لمن طرد عن الباب وما أناب. اللهم سر بنا في سَرْب النجابة، ووفقنا للتوبة والإنابة، وافتح لأدعيتنا أبواب الإجابة.
اللهم بارك لنا في رمضان، وأعنا على صيامه وقيامه، واجعلنا من عتقائك من النيران.
[1] رواه ابن ماجه، وحسنه الألباني (4171).
[2] نداء الريان 1/166.
الكاتب: الشيخ إبراهيم الدحيم
المصدر: موقع المسلم